الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} قوله تعالى{وقطعناهم في الأرض أمما} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. }منهم الصالحون} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات قبل نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين؛ كما سبق. }ومنهم دون ذلك} منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. }وبلوناهم} أي اختبرناهم. }بالحسنات} أي بالخصب والعافية. }والسيئات} أي الجدب والشدائد. }لعلهم يرجعون} ليرجعوا عن كفرهم. {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} قوله تعالى{فخلف من بعدهم خلف} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم{الخلف} بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و}الخلف} بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي{الخلف} بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد: ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر }سكت ألفا ونطق خلفا}. فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم{يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله}. وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت: وقال آخر. لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف ويروى: خضف؛ أي ردم. والمقصود من الآية الذم. }ورثوا الكتاب} قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرؤوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. }يأخذون عرض هذا الأدنى} ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. }ويقولون سيغفر لنا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون. قوله تعالى{وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} والعرض: متاع الدنيا؛ بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم. قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل: إن الضمير في }يأتهم} ليهود المدينة؛ أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى{ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل. قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله. قوله تعالى{ودرسوا ما فيه} أي قرؤوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبدالرحمن }وادارسوا ما فيه} فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس{ألا يقولوا على الله إلا الحق} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها؛ كما ذكرنا. وقال بعض العلماء: إن معنى }ودرسوا ما فيه} أي محوه بترك العمل به والفهم له؛ من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله تعالى {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} قوله تعالى{والذين يمسكون بالكتاب} أي بالتوراة، أي بالعمل بها؛ يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر }يمسكون} بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير: فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد. {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} قوله تعالى{وإذ نتقنا الجبل} }نتقنا} معناه رفعنا. }كأنه ظلة} أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. }خذوا ما آتيناكم بقوة} أي بجد. وقد تقدم. {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} قوله تعالى{وإذ أخذ ربك} أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض }أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا. }ألست بربكم} أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم؛ كما قال تعالى في السماوات والأرض قلت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال؛ فقال ابن عباس: ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أن ذلك برهبا - أرض بالهند - الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال{ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} قال يحيى قال الحسن: ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام. وقال الكلبي: بين مكة والطائف. وقال السدي: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء. قال ابن العربي رحمه الله{فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلا أم شرعا؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح؛ لما يتوقع في ذلك من الانتفاع، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به}. واختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أو عامة. فقيل: الآية خاصة؛ لأنه تعالى قال{من بني آدم من ظهورهم} فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصلبه. وقال جل وعز{أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون. وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل: بل هي عامة لجميع الناس؛ لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى }وأشهدهم على أنفسهم}. ومعنى }قالوا بلى} أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في }الروم} إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب }التذكرة} والحمد لله. قوله تعالى{من ظهورهم} بدل اشتمال من قوله }من بني آدم}. وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله{من بني آدم}. }ذريتهم} قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع؛ قال الله تعالى قوله تعالى{بلى} تقدم القول فيها في }البقرة}. }أن يقولوا} }أو يقولوا} قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قوله{من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم}. وقوله{قالوا بلى} أيضا لفظ غيبة. وكذا }وكنا ذرية من بعدهم} }ولعلهم} فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما؛ ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله{ألست بربكم قالوا بلى}. ويكون }شهدنا} من قول الملائكة. لما قالوا }بلى} قالت الملائكة{شهدنا أن تقولوا} }أو تقولوا} أي لئلا تقولوا. وقيل: معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله }شهدنا} هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض؛ فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض؛ فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على }بلى} ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم؛ لأن }أن} متعلقة بما قبل بلى، من قوله{وأشهدهم على أنفسهم} لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا}. أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله }شهدنا} من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى: فشهدنا على إقراركم؛ قاله أبو مالك، وروي عن السدي أيضا. }وكنا ذرية من بعدهم} أي اقتدينا بهم. }أفتهلكنا بما فعل المبطلون} بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد. {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات. فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله }واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنف كتابا في أن }ليس للعالم صانع}. قال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان؛ فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى؛ ففيه نزلت هذه الآيات. روى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بلعام قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه. فقيل له في ذلك؛ لا أقدر على أكثر مما تسمعون؛ واندلع لسانه على صدره. فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا؛ ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره. وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له وبقي في التيه. فقال موسى: يا رب، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم؛ فسلخه الله ما كان عليه، وقال أبو حامد في آخر كتاب منهاج العارفين له: وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرده بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى: لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته. وقال عكرمة: كان بلعام نبيا وأوتي كتابا. وقال مجاهد: إنه أوتي النبوة؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردي: وهذا غير صحيح؛ لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم{آمن شعره وكفر قلبه}. وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية؛ فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: يا محمد، ما هذا الذي جئت به؟ قال{جئت بالحنيفية دين إبراهيم}. قال: فإني عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها}. فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{نعم أمات الله الكاذب منا كذلك} وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة. فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين: استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة؛ فمات بالشام وحيدا. وفيه نزل {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} قوله تعالى{ولو شئنا لرفعناه بها} يريد بلعام. أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة. }بها} أي بالعمل بها. }ولكنه أخلد إلى الأرض} أي ركن إليها؛ عن ابن جبير والسدي. مجاهد: سكن إليها؛ أي سكن إلى لذاتها. وأصل الإخلاد اللزوم. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه. قال زهير: يعني المقيم؛ فكأن المعنى لزم لذات الأرض فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض. }واتبع هواه} أي ما زين له الشيطان. وقيل: كان هواه مع الكفار. وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت رغبت في أموال حتى حملته على الدعاء على موسى. }فمثله كمثل الكلب} ابتداء وخبر. }إن تحمل عليه يلهث} شرط وجوابه. وهو في موضع الحال، أي فمثله كمثل الكلب لاهثا. والمعنى: أنه على شيء واحد لا يرعوي عن المعصية؛ كمثل الكلب الذي هذه حالته. فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده. قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؛ كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، وإنما فؤاده منقطع. قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل؛ فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث؛ كقوله تعالى وقوله تعالى }إن تحمل عليه يلهث} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح؛ فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهاثه لموت فؤاده. وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن. وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمت به العدو، فذهب إلى السباع فأشلاهم على آدم، فكان الكلب من أشدهم طلبا. فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمدين وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطانا عظيما وكانت من آس الجنة؛ فأعطاها آدم صلى الله عليه وسلم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا، وألف به وبولده إلى يومنا هذا، لوضع يده على رأسه، وصار حارسا من حراس ولده. وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم؛ وذلك قوله قوله تعالى{ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} أي هو مثل جميع الكفار. {ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} قوله تعالى{ساء مثلا القوم} يقال: ساء الشيء قبح، فهو لازم، وساء يسوء مساءة، فهو متعد، أي قبح مثلهم. وتقديره: ساء مثلا مثل القوم؛ فحذف المضاف، ونصب }مثلا} على التمييز. قال الأخفش: فجعل المثل القوم مجازا. والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ. التقدير: ساء المثل مثلا هو مثل القوم. وقدره أبو علي: ساء مثلا مثل القوم. وقرأ عاصم الجحدي والأعمش }ساء مثل القوم} رفع مثلا بساء. {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} تقدم معناه في غير موضع. وهذه الآية ترد على القدرية كما سبق، وترد على من قال إن الله تعالى هدى جميع المكلفين ولا يجوز أن يضل أحدا. {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلا بعدله. ثم وصفهم فقال }لهم قلوب لا يفقهون بها} بمنزلة من لا يفقه؛ لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. و} أعين لا يبصرون بها} الهدى. و}آذان لا يسمعون بها} المواعظ. وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة كما بيناه في }البقرة}. }أولئك كالأنعام بل هم أضل} لأنهم لا يهتدون إلى ثواب، فهم كالأنعام؛ أي همتهم الأكل والشرب، وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك. وقال عطاء: الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه. وقيل: الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. و}أولئك هم الغافلون} أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار. {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أمر بإخلاص العبادة لله، ومجانبة المشركين والملحدين. قال مقاتل وغيره من المفسرين: نزلت الآية في رجل من المسلمين، كان يقول في صلاته: يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. جاء في كتاب الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهما حديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه أن لله تسعة وتسعين اسما؛ في أحدهما ما ليس في الآخر. وقد بينا ذلك في (1) واختلف العلماء من هذا الباب في الاسم والمسمى، وقد ذكرنا ما للعلماء من ذلك في }الكتاب الأسنى}. قال ابن الحصار: وفي هذه الآية وقوع الاسم على المسمى ووقوعه على التسمية. فقوله{ولله} وقع على المسمى.، وقوله{الأسماء} وهو جمع اسم واقع على التسميات. يدل على صحة ما قلناه قوله{فادعوه بها}، والهاء في قوله{فادعوه} تعود على المسمى سبحانه وتعالى، فهو المدعو. والهاء في قوله }بها} تعود على الأسماء، وهي التسميات التي يدعى بها لا بغيرها. هذا الذي يقتضيه لسان العرب. ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم{لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد} الحديث. وقد تقدم في }البقرة} شيء من هذا. والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى، أو صفة له تتعلق به، وأنه غير التسمية. قال ابن العربي عند كلامه على قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى}: فيه ثلاثة أقوال. قال بعض علمائنا: في ذلك دليل على أن الاسم المسمى؛ لأنه لو كان غيره لوجب أن تكون الأسماء لغير الله تعالى. الثاني: قال آخرون: المراد به التسميات؛ لأنه سبحانه واحد والأسماء جمع. قلت: ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره. وقال القاضي أبو بكر في كتاب التمهيد: وتأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم{لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة} أي أن له تسعة وتسعين تسمية بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى، منها ما يستحقه لنفسه ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به، وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو، وما تعلق بصفة له فهي أسماء له. ومنها صفات لذاته. ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أي التسميات الحسنى. الثالث: قال آخرون منهم: ولله الصفات. سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب؛ فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله. والحسنى مصدر وصف به. ويجوز أن يقدر }الحسنى} فعلى، مؤنث الأحسن؛ كالكبرى تأنيث الأكبر، والجمع الكبر والحسن. وعلى الأول أفرد كما أفرد وصف ما لا يعقل؛ كما قال تعالى قوله تعالى{فادعوه بها} أي اطلبوا منه بأسمائه؛ فيطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رازق ارزقني، يا هادي اهدني، يا فتاح افتح لي، يا تواب تب علي؛ هكذا. فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لي، يا لطيف ارزقني. وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت: يا الله؛ فهو متضمن لكل اسم. ولا تقول: يا رزاق اهدني؛ إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير. قال ابن العربي: وهكذا، رتب دعاءك تكن من المخلصين. وقد تقدم في }البقرة} شرائط الدعاء، وفي هذه السورة أيضا. والحمد لله. أدخل القاضي أبو بكر بن العربي عدة من الأسماء في أسمائه سبحانه، مثل متم نوره، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ورابع ثلاثة، وسادس خمسة، والطيب، والمعلم؛ وأمثال ذلك. قال ابن الحصار: واقتدى في ذلك بابن برجان، إذ ذكر في الأسماء }النظيف} وغير ذلك مما لم يرد في كتاب ولا سنة. قلت: أما ما ذكر من قوله{مما لم يرد في كتاب ولا سنة} فقد جاء في صحيح مسلم }الطيب}. وخرج الترمذي }النظيف}. قوله تعالى{يلحدون} الإلحاد: الميل وترك القصد؛ يقال: ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته. وقرئ }يلحدون} لغتان والإلحاد يكون بثلاثة أوجه أحدها: بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: بالزيادة فيها. الثالث: بالنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به. قال ابن العربي{فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة؛ وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم أختار دعاء كذا وكذا؛ فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم. معنى الزيادة في الأسماء التشبيه، والنقصان التعطيل. فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه، والمعطلة سلبوه ما اتصف به، ولذلك قال أهل الحق: إن ديننا طريق بين طريقين، لا بتشبيه ولا بتعطيل. وسئل الشيخ أبو الحسن البوشنجي عن التوحيد فقال: إثبات ذات غير مشبهة بالذوات، ولا معطلة من الصفات. وقد قيل في قوله تعالى{وذروا الذين يلحدون} معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. فالآية على هذا منسوخة بالقتال؛ قاله ابن زيد. وقيل: معناه الوعيد؛ كقوله تعالى {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} أخبر تعالى عمن كذب بآياته أنه سيستدرجهم. قال ابن عباس: هم أهل مكة. والاستدراج هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة. والدرج: لف الشيء؛ يقال: أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل: هو من الدرجة؛ فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال: بالألطاف والكرامات؛ لذلك قال سبحانه وتعالى{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر؛ وأنشدوا: وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر {وأملي لهم إن كيدي متين} قوله تعالى{وأملي لهم} أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. }إن كيدي} أي مكري. }متين} أي شديد قوي. وأصله من المتن، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب. قيل: نزلت في المستهزئين من قريش، قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة. نظيره {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين} قوله تعالى{أولم يتفكروا} أي فيما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم. والوقف على }يتفكروا} حسن. ثم قال{ما بصاحبهم من جنة} رد لقولهم {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون} قوله تعالى{أو لم ينظروا} عجب من إعراضهم عن النظر في آياته؛ ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة }البقرة}. والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم. استدل بهذه الآية - وما كان مثلها من قوله تعالى وقد اختلف العلماء في أول الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أول الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله حيث بوب في كتابه }باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}. وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (2) ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر؛ فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال. قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه؛ لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين. أي هذا من قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم{لقد حجرت واسعا}. خرجه البخاري والترمذي وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابي عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان ؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما قال للسوداء{أين الله} ؟ قالت: في السماء. قال{من أنا}؟ قالت: أنت رسول الله. قال{أعتقها فإنها مؤمنة}. ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم. ولا يكون النظر أيضا والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنسوان. قال أبو الفرج الجوزي: قال أبو الطيب طاهر بن عبدالله الطبري بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج: وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل لم يحل الله النظر إلا على صور لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها؛ بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذة. ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا؛ كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه. وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى فهو منه وإليه وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحش بصغر فيعطيه قوله تعالى{وما خلق الله من شيء} معطوف على ما قبله؛ أي وفيما خلق الله من الأشياء. }وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت؛ فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر ويوم أحد. }فبأي حديث بعده يؤمنون} أي بأي قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون. وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف. {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله تعالى{من يضلل الله فلا هادي له} بين أن إعراضهم لأن الله أضلهم. وهذا رد على القدرية. }ويذرهم في طغيانهم} بالرفع على الاستئناف. وقرئ بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها. }يعمهون} أي يتحيرون. وقيل: يترددون. وقد مضى في سورة }البقرة} مستوفى. {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله تعالى{يسألونك عن الساعة أيان مرساها} }أيان} سؤال عن الزمان؛ مثل متى. قال الراجز: وكانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم. وروي أن المشركين قالوا ذلك لفرط الإنكار. و}مرساها} في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر }أيان}. وهو ظرف مبني على الفتح، بني لأن فيه معنى الاستفهام. و}مرساها} بضم الميم، من أرساها الله، أي أثبتها، أي متى مثبتها، أي متى وقوعها. وبفتح الميم من رست، أي ثبتت ووقفت؛ ومنه يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب، فهو محف وحفي على التكثير، مثل مخصب وخصيب. قال محمد بن يزيد: المعنى يسألونك كأنك حفي بالمسألة عنها، أي ملح. يذهب إلى أنه ليس في الكلام تقديم وتأخير. وقال ابن عباس وغيره: هو على التقديم والتأخير، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم. وذلك لأنهم قالوا: بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا بوقت الساعة. }قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ليس هذا تكريرا، ولكن أحد العلمين لوقوعها والآخر لكنهها. قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} قوله تعالى{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا} أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا؛ فكيف أملك علم الساعة. وقيل: لا أملك لنفسي الهدى والضلال. }إلا ما شاء الله} في موضع نصب بالاستثناء. والمعنى: إلا ما شاء الله أن يملكني يمكنني منه. وأنشد سيبويه: قوله تعالى{ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته. وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. وقال ابن عباس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني. وقيل: المعنى لو كنت أعلم التجارة التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل: المعنى لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح؛ عن الحسن وابن جريج. وقيل: المعنى لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه. وكله مراد، والله أعلم. }وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} هذا استئناف كلام، أي ليس بي جنون، لأنهم نسبوه إلى الجنون. وقيل: هو متصل، والمعنى لو علمت الغيب لما مسني سوء ولحذرت، ودل على هذا قوله تعالى {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} قوله تعالى{هو الذي خلقكم من نفس واحدة} قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم. }وجعل منها زوجها} يعني حواء. }ليسكن إليها} ليأنس بها ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة. ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال{فلما تغشاها} كناية عن الوقاع. }حملت حملا خفيفا} كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح. وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حَمل وحِمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة. والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا إذا صال. }فمرت به} يعني المني؛ أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. يقول: تقوم وتقعد وتقلب، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقيل: المعنى فاستمر بها الحمل، فهو من المقلوب؛ كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقرأ عبدالله بن عمر }فمارت به} بألف والتخفيف؛ من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف. وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر }فمرت به} خفيفة من المرية، أي شكت فيما أصابها؛ هل هو حمل أو مرض، أو نحو ذلك. قوله تعالى{فلما أثقلت} صارت ذات ثقل؛ كما تقول: أثمر النخل. وقيل: دخلت في الثقل؛ كما تقول: أصبح وأمسى. }دعوا الله ربهما} الضمير في }دعوا} عائد على آدم وحواء. وعلى هذا القول ما روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو. وهذا يقوي قراءة من قرأ }فمرت به} بالتخفيف. فجزعت بذلك؛ فوجد إبليس السبيل إليها. قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري ! قال: إني أخاف أن يكون بهيمة. فقالت ذلك لآدم عليه السلام. فلم يزالا في هم من ذلك. ثم عاد إليها فقال: هو من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه بي؟ قالت نعم. قال: فإني أدعو الله. فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي. فقالت: وما اسمك ؟ قال: الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبدالحارث. ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث، في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات؛ فلا يعول عليها من لم قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض}. وعضد هذا بقراءة السلمي }أتشركون} بالتاء. ومعنى }صالحا} يريد ولدا سويا. اختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء. قال المفسرون: كان شركا في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني: إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبدالحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه؛ كما قال حاتم: وقال قوم: إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام، وهو الذي يعول عليه. فقوله{جعلا له} يعني الذكر والأنثى الكافرين، ويعني به الجنسان. ودل على هذا }فتعالى الله عما يشركون} ولم يقل يشركان. وهذا قول حسن. وقيل: المعنى }هو الذي خلقكم من نفس واحدة} من هيئة واحدة وشكل واحد }وجعل منها زوجها} أي من جنسها }فلما تغشاها} يعني الجنسين. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية؛ فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين. قال صلى الله عليه وسلم }ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية على هذه الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه}. قال عكرمة: لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم. وقال الحسين بن الفضل: وهذا أعجب إلى أهل النظر؛ لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم. وقرأ أهل المدينة وعاصم }شركا} على التوحيد. وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع، على مثل فعلاء، جمع شريك. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وهي صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك؛ مثل ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض. وهذا الذي قاله مالك{إنه مرض من الأمراض} يعطيه ظاهر قوله{دعوا الله ربهما} وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة؛ كما ورد في الحديث. وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه. وقال أبو حنيفة والشافعي: وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق، فأما قبل ذلك فلا. واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة. قلنا: كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة 0 وقد يموت من لم يمرض. قال مالك: إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث. ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك؛ لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح. قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال: إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال. ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص. وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال ابن العربي: وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض، وإنكار ذلك غفلة في النظر؛ فإن سبب الموت موجود عندهما، كما أن المرض سبب الموت، قال الله تعالى وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت ومما يدل على هذا قوله تعالى وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل. فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. وقال ابن وهب وأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس؛ لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر، ولا رأى دودا على عود. ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر. {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} قوله تعالى{أيشركون ما لا يخلق شيئا} أي أيعبدون ما لا يقدر على خلق شيء. }وهم يخلقون} أي الأصنام مخلوقة. وقال{يخلقون} بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس؛ كقوله {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} قوله تعالى{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} قال الأخفش: أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. }سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} قال أحمد بن يحيى: لأنه رأس آية. يريد أنه قال{أم أنتم صامتون} ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ }لا يتبعوكم} مشددا ومخففا} لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة{أتبعه} - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و}اتبعه} - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه. {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} قوله تعالى{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} حاجهم في عبادة الأصنام. }تدعون} تعبدون. وقيل: تدعونها آلهة. }من دون الله} أي من غير الله. وسميت الأوثان عبادا لأنها مملوكة لله مسخرة. الحسن: المعنى أن الأصنام مخلوقة أمثالكم. ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع أجراها مجرى الناس فقال{فادعوهم} ولم يقل فادعوهن. وقال{عباد}، وقال{إن الذين} ولم يقل إن التي. ومعنى }فادعوهم} أي فاطلبوا منهم النفع والضر. }فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابن عباس: معنى فادعوهم فاعبدوهم. ثم وبخهم الله تعالى وسفه عقولهم فقال{ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها} أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم. والغرض بيان جهلهم؛ لأن المعبود يتصف بالجوارح. وقرأ سعيد بن جبير{إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم} بتخفيف }إن} وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب }عبادا} بالتنوين، }أمثالكم} بالنصب. والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم، أي هي حجارة وخشب؛ فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه. قال النحاس: وهذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أنها مخالفة للسواد. والثانية: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما، فيقول: إن زيد منطلق؛ لأن عمل }ما} ضعيف، و}إن} بمعناها فهي أضعف منها. والثالثة: إن الكسائي زعم أن }إن} لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى }ما}، إلا أن يكون بعدها إيجاب؛ كما قال عز وجل قوله تعالى{قل ادعوا شركاءكم} أي الأصنام. }ثم كيدون} أنتم وهي. }فلا تنظرون} أي فلا تؤخرون. والأصل }كيدوني} حذفت الياء لأن الكسرة تدل عليها. وكذا }فلا تنظرون}. والكيد المكر. والكيد الحرب؛ يقال: غزا فلم يلق كيدا. {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} قوله تعالى{إن وليي الله الذي نزل الكتاب} أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشيء: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر. والكتاب: القرآن. }وهو يتولى الصالحين} أي يحفظهم. {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} قوله تعالى{والذين تدعون من دونه} كرره ليبين أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر. }وإن تدعوهم إلى الهدى} شرط، والجواب }لا يسمعوا}. }وتراهم} مستأنف. }ينظرون إليك} في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين إلى المنظور إليه؛ وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر؛ لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال }وتراهم ينظرون} وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم. {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله{خذ العفو} دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله{وأمر بالعرف} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله{وأعرض عن الجاهلين} الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة. قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، إعطاء من تحرمه ووصل من تقطعه والعفو عمن اعتدى وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق وقال سهل بن عبدالله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شيء أوصاك ؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة. قلت: وقد قوله تعالى{وأمر بالعرف} أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر }العرف} بضمتين؛ مثل الحلم؛ وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر: وقال عطاء{وأمر بالعرف} يعني بلا إله إلا الله. قوله تعالى{وأعرض عن الجاهلين} أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم؛ صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة؛ وهو الصحيح لما
|